سورة الجاثية - تفسير تفسير ابن عجيبة

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الجاثية)


        


قلت: {واختلاف الليل والنهار...} الآية؛ فيها العطف على عاملين، سواء نصبت {آيات} أو رفعتها، فالعاملان إذا نصبت {إن} و {في} أقيمت الواو مقامهما، فعملت الجر في {واختلاف} والنصب في {آيات}، وإذا رفعت فالعاملان الابتداء، وحرف {في} عملت الواو الرفع في {آيات} والجرّ في {واختلاف} وهذا مذهب الأخفش، فإنه يُجوِّز العطفَ على عاملين، وأما سيبويه فلا يُجيزه، وتخريج الآية عنده: أن يكونَ على إضمار {في}، والذي حسّنه: تقديم ذكر {في} الآيتين قبله، ويؤيده: قراءة ابن مسعود رضي الله عنه {وفي اختلاف الليل والنهار} وفيها أوجه أُخر.
يقول الحق جلّ جلاله: {حم} يا حبيب يا مجيد هذا {تنزيلُ الكتاب من الله العزيز الحكيم} فكونه من الله عزّ وجل دلّ أنه حق وصدق وصواب، وكونه من العزيز دلَّ أنه معجز،، يَغلِب ولا يُغلب، وكونه من الحكيم دلّ أنه مشتمل على الحِكَم البالغة، وأنه محكَم في نفسه، يَنسِخ ولا يُنْسَخ.
ثم برهن على عزته، وباهر حكمته، فقال: {إِنَّ في خلق السماوات والأرض} إِما في نفس السماوات والأرض؛ فإن في شكلهما من بدائع وفنون الحِكَم ما يقصر عنه البيان، وإما في خلقهما وإظهارهما، كما في قوله تعالى: {إِنَّ فِى خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} [آل عمران: 190] {لآياتٍ للمؤمنين} لدلالاتٍ على وحدانيته تعالى لأهل الإيمان، وهو الأوفق بقوله: {وفي خلقِكم} أي: من نطفة ثم من علقة متقلبة من أطوار مختلفة إلى تمام الخلق، {وما يَبُتُّ من دابةٍ} عطف على المضاف دون المضاف إليه، أي: وفي خلق ما يبث، أي: ينشر ويُصرّف من دابة {آياتٌ} ظاهرة على باهر قدرته وحكمته، {لقومٍ يُوقنون} أي: من شأنهم أن يوقنوا بالأشياء على ما هي عليه، ويعرفوا فيها صانعها، {وفي اختلاف الليل والنهار} أي: تعاقبهما بالذهاب والمجيء، أو: تفاوتهما طولاً، وقصراً، {و} في {ما أنزل اللّهُ من السماءِ مِن رزقٍ} مطر؛ لأنه سبب الرزق، فعبَّر عن السبب بالمسبب؛ لأنه نتيجته، تنبيهاً على كونه آية من جهة القدرة والرحمة، {فأحيا به الأرضَ} بأن أخرج أصناف الزرع والثمرات والنبات {بعد موتها} أي: خلُوها عن آثار الحياة وانتفاء قوة التنمية عنها، وخُلوا أشجارها عن الثمار والأزهار.
{وتصريفِ الرياح} أي: هبوبها من جهة إلى أخرى، ومن حال إلى حال، وتأخيره عن نزول المطر مع تقدمه عليه في الوجود، إما للإيذان بأنه آية مستقلة، ولو روعي الترتيب الوجودي لربما توهم أن مجموع تصريف الرياح ونزول المطر آية واحدة، أو: لأن كون التصريف آية ليس مجرد كونه مبتدأ لإنشاء المطر، بل له ولسائر المنافع، التي من جملتها: سوق السفن في البحار، وإلقاح الأشجار، {آياتٌ لقوم يعقلون} يتدبّرون بعقولهم، فيصلون إلى صريح التوحيد.
وفي تقديم الإيمان على الإيقان، وتأخير تدبُّر العقل؛ لأن العباد إذا نظروا في السموات والأرض نظراً صحيحاً؛ علموا أنها مصنوعة، وأنه لا بُدَّ لها من صانع، فآمنوا بالله، وإذا نظروا في خلق أنفسهم، وتنقلها من حالٍ إلى حال، وفي خلق ما ظَهَرَ على ظَهْر الأرض من صنوف الحيوان ازدادوا إيماناً وأيقنوا، فإذا نظروا في سائر الحوادث التي تتجدّد في كل وقت، كتعاقب الليل والنهار، ونزول الأمطار، وحياة الأرض بعد موتها، وتصريف الرياح، جنوباً وشمالاً، ودَبوراً وصباً، عقِلوا، واستحكم في عقولهم، وخلص يقينهم، فكانوا من ذوي الألباب.
{تلك آياتُ الله} مبتدأ وخبر، و{نتلُوها عليك} حال، العامل: معنى الإشارة، أي: تلك الآيات المتقدمة هي آيات الله الدالة على وجوب وجوده واتصافه بأوصاف الكمال، حال كونها متلوةً عليك، ملتبسة {بالحق} أو: نتلوها محقين في ذلك: فالجار والمجرور: حال من المفعول أو الفاعل. {فبأيّ حديثٍ} من الأحاديث {بعد الله وآياتهِ} أي: بعد آيات الله، كقولك: أعجبني زيد وكرمه، أي: أعجبني كرم زيد، أو: بعد حديث الله، الذي هو القرآن، وآياته العامة في كل شيء، فيكون على حذف مضاف، أو: يُراد بها القرآن أيضاً، والعطف للتغاير العنواني، فالأول من جهة كونه حديثاً حسناً، والثاني باعتبار كونه معجزاً، أي: فبأي حديثٍ بعد أحسن الحديث وأبهر الآيات {يؤمنون} يُصدِّقون؟! ومَن قرأ بالخطاب يُقدر: قل يا محمد.
الإشارة: قال القشيري: الحاء تدل على حياته، والميم تدل على مودته، كأنه قال: بحق حياتي ومودتي لأوليائي، لا شيء أعز على أحبائي من لقائي، العزيزُ في جلاله، الحكيم في فعاله، العزيز في أزله، الحكيم في لُطفه بالعبد بوصف إقباله.
قوله تعالى: {إِنَّ في السماوات والأرض...} الآية؛ شواهد الربوبية لائحةٌ، وأدلة الإلهية واضحةٌ، فَمَنْ صحا فكره عن سُكر الغفلة، ووضعَ سِرَّه في محل العِبْرة، حَظِيَ- لا محالة- بحقائق الوصلة. اهـ. قلت: إنما يحظى بالوصلة إذا نفذت بصيرته إلى شهود المكوِّن، ولم يقف مع شيء من حس الكائنات، بل نفذ إلى ما فيها من أسرار المعاني، فعرف فيها مولاها، وشاهد فيها المتجلي بها، وإلا بَقِيَ مسجوناً محصوراً في ذاته.
قوله تعالى: {وفي خلقكم...} الآية، قال القشيري: إذا أنعم العبدُ النظرَ في استواء قدِّه وقامته، واستكمال خلقه، وتمام تمييزه، وما هو مخصوص به من جوارحه وحوائجه، ثم فكّر فيما عداه من الدواب، وأجزائها وأعضائها، ووقف على اختصاصه، وامتياز بني آدم من بين البريَّة من الحيوانات، في الفهم والعقل والتمييز والعلم، ثم في الإيمان والعرفان، ووجوه خصائص أهل الصفوة من هذه الطائفة من فنون الإحسان؛ عَرَف تخصيصهم بمناقبهم، وانفرادهم بفضلهم، فاستيقن أن الله أكرمهم، وعلى كثيرٍ من المخلوقات قَدَّمهم.
ثم قال في قوله: {واختلاف الليل والنهار...} الآية. جعل الله العلومَ الدينية كسبيةً مُصحَّحةً بالدلائل، مُحتَفةً بالشواهد، فمَن لم يستبصرْ لها زلَّتْ قَدَمُه عن الصراط المستقيم، ووقع في عذاب الجحيم، فاليومَ في ظلمة الحيرة والتقليد، وفي الآخرة في التخليد في الوعيد. اهـ. قلت: النظر في دلائل الكائنات من غير تنوير، ولا صحبة أهل التنوير، لا تزيد إلا حيرة، ولذلك قال بعضهم: إيمان أهل علم الكلام كالخيط في الهواء، يميل مع كل ريح، فالتقليد حينئذ أسلم، والتمسك بظاهر الكتاب والسنة أتم، ومَن سقط على العارفين بالله، لم يحتج إلى دليل ولا شاهد، وأغناه شهود الشهيد عن كل شاهد.
عجبت لمَن يبغي عليك شهادة *** وأنت الذي أشهدته كلَّ شاهد
كيف يُعرف بالمعارف مَن به عُرفت المعارف؟! تنزّه الحق تعالى أن يفتقر إلى دليل يدلّ عليه، بل به يستدل على غيره، فلا يجد غيره. تلك آيات شواهد نتلوها عليك لترانا فيها، لا لتراها مفروقةً عنا، ولذلك قال تعالى: {بالحق} أي: ملتبسة بنور الحق، الله نور السموات والأرض.
قوله تعالى: {فبأي حديث...} الآية، قال القشيري: فَمَنْ لا يؤمن بها فبأي حديث يؤمن؟ ومن أي أصل ينشأ بعده؟ ومن أي بحر في التحقيق يغترف؟ هيهات ما بقي للإشكال في هذا مجال. اهـ.


يقول الحق جلّ جلاله: {ويلٌ لكل أفَّاكٍ} كذَّاب {أثيم} كثير الآثام، {يسمع آيات الله} التنزيلية {تُتلى عليه} وجملة {يسمع} صفة أخرى لأفَاك، أو استئناف، أو حال من ضمير {أثيم}، {تتلى}: حال من {آيات الله}، {ثم يُصِرُّ} أي: يُقيم على كفره، حال كونه {مستكبراً} عن الإيمان بالآيات، والإذعان لما تنطق به من الحق، مُزْدرياً بها، مُعجَباً بما عنده من الأباطيل. قيل: نزلت في النضر بن الحارث، وكان يشتري من أحاديث الأعاجم، ويشغل بها الناس عن سماع القرآن، والآية عامة في كل مَن كان مضاراً لدين الله وجيء بثمّ لأن الإصرارَ على الضلالة، والاستكبار عن الإيمان عند سماع آيات القرآن، مستبعدٌ في العقول. ثم قال: {كأن لم يسمعها} أي: كأنه لم يسمعها، فأن مخففة، ومحل الجملة النصب على الحال، أي: يُصر شبيهاً بغير السامع، {فبشِّره} على إصراره واستكباره {بعذابٍ أليم} أي: أخبره خبر يظهر أثره على البشرة، تهكُّماً به.
{وإِذا عَلِمَ من آياتنا شيئاً} أي: إذا بلغه من آياتنا شيئاً يمكن أن يتشبّث بها المعاند، ويجد له محملاً فاسداً يتوسل به إلى الطعن والمغمزة، {اتخذها} أي: مهزوءاً بها، لا ما يسمعه فقط، وإنما لم يقل: اتخذه؛ للإشعار بأنه إذا أحسّ بشيء من الكلام فيه شيء بزعمه الركيك؛ لم يقتصر على الاستهزاء بما بلغه، بل يستهزئ بالجميع، ويجوز أن يرجع الضمير (لشيء) لأنه في معنى الآية. {أولئك لهم} بسبب جناياتهم المذكورة {عذابٌ مُهين} وصف العذاب بالإهانة توفية لحق استكبارهم واستهزائهم بآيات الله تعالى، وجمع الإشارة باعتبار ما في {كل أفَّاك أثيم} من الشمول، كما في قوله تعالى: {كُلُّ حِزْبِ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} [المؤمنون: 53]، وأفرد فيما سبق من الضمائر باعتبار كل واحدٍ واحد، {مِن ورائهم جهنمُ} أي: من قدّامهم، لأنهم متوجهون إلى ما أعدّ لهم، أو: مِن خلقهم؛ لأنهم معرضون عن ذلك، مقبلون على الدنيا، فإن الوراء: اسم للجهة التي يواريها الشخص من قدّام وخلف، {ولا يُغني عنهم} لا يدفع عنهم {ما كسبوا} من الأموال والأولاد {شيئاً} من عذاب الله تعالى، {ولا ما اتخذوا من دون الله أولياءَ} أي: الأصنام، و {ما} مصدرية، أو موصولة، وتوسيط حرف النفي بين المعطوفين ينبئ أن عدم إغناء الأصنام أظهر وأجلى من عدم إغناء الأموال والأولاد قطعاً، مبني على زعمهم الفاسد، حيث كانوا يطمعون في شفاعتهم {ولهم عذاب عظيم} لا يقادر قدره.
{هذا} أي: القرآن {هُدىً} في غاية الكمال من الهداية، كأنه نفس الهدى، {والذين كفروا بآيات ربهم} أي: القرآن، وإنما وضع موضع ضميره الآيات لزيادة تشنيع كفرهم وتفظيع حالهم، {لهم عذابٌ من رِجْزٍ} من أشد العذاب {أليم} مؤلم، بالرفع صفة {عذاب}، وبالجر صفة {رِجز}، وتنوين عذاب في المواضع الثلاثة للتخيم.
الإشارة: مَن لم يضبط لسانه وجوارحه، وتصاممت آذانُ قلبه عن تدبُّر القرآن، فالويل حاصل له، ويُبَشَّر بالخيبة والخسران من مراتب أهل العرفان، ومن ضبط أمور ظاهره بالتقوى، وفتحت آذان قلبه لسماع كلام المولى، فقد فَاز بعز الدارين. قال القشيري: فمَن استمع بسمع الفهم، واستبصر بنور التوحيد، فاز بذُخْر الدارين، وتصدَّى لعز المنزلتين، ومَن تصامم بحكم الغفلة، وقع في وهدة الجهل، ووُسِم بكى الهَجْر. اهـ.
قوله تعالى: {إذا علم من آياتنا شيئاً اتخذوها هزواً} قال القشيري: وقد يُكاشَفُ العبدُ من مواطن القلب بتعريفاتٍ لا يداخله فيها ريبٌ، ولا يتخلله فيها شكٌّ فيما هو فيه من حاله، فإذا استهان بها وقع في ذُلِّ الحجْبة، وحجاب الفرقة وهوانها. اهـ. فإذا صفا القلب صار مرسى لتجلي الواردات الإلهية، وهي آية من آياته، فإذا تجلّى فيه شيء بأمر أو نهي فاستهان به وخالفه أدّبه الحق على ذلك، إما في ظاهره، وهو أخف، أو في باطنه بالحجبة أو الفرقة، ولقد سمعت شيخ شيخنا، مولاي العربي الدرقاوي رضي الله عنه يقول: لي ثلاثون سنة ما خالفت قلبي في شيء إلا أدّبني الحق تعالى عليه. اهـ. أي: في ظاهره، وذلك لغاية صفائه.
قوله تعالى: {من ورائهم جهنم..} الآية، لا عذاب أشد من الحجب بعد الإظهار، والفرقة بعد الوصال، وأنشدوا:
فَخَلِّ سَبِيلَ الْعَيْنِ بَعْدَكَ لِلبُكَا *** فَلَيسَ لأيَّام الصَّفاء رجوعُ
انظر القشيري.


يقول الحق جلّ جلاله: {اللّهُ الذي سخَّر لكم البحر} أي: ذلّله، بأن جعله أملس السطح، يطفو عليه ما فوقه، ولا يمنع الغوص فيه، لمَيَعَانه، {لتجري الفلكُ فيه بأمره} بإذنه، وأنتم راكبوها، {ولتبتغوا من فضله} بالتجارة، والغوص لابتغاء الحلية، كاللؤلؤ والمرجان، وكالصيد وغيرها، {ولعلكم تشكرون} ولكي تشكروا النعم المترتبة على ذلك، {وسخَّر لكم ما في السماوات وما في الأرض} من الموجودات. بأن جعلها مداراً لمنافعهم.
قال القشيري: إذ ما من شيء من الأعيان الظاهرة، إلا وللإنسان به انتفاع من وجوه، فالسماء لها بناء، والأرض لهم مِهاد، وليتأمل العبدُ في كل شيء لو لم يكن، أيّ خلل يرجع إلى الخلق؟ لولا الشمس كيف كانوا يتصرفون بالنهار؟ ولولا الليل، كيف كانوا يسكنون؟ ولولا القمر هل كانوا يهتدون للحساب والآجال؟ وكذلك جميع المخلوقات. اهـ. وقوله: {جميعاً منه} حال، وليس من التوكيد لعدم الضمير، ولو كان توكيداً لقال: جميعه ثم التوكيد بجميع قليل، فلا يحمل التنزيل عليه، قاله في المغني. والمنفي كونه توكيداً اصطلاحياً، فلا ينافي كونه حالاً مؤكدة في المعنى. {إِنَّ في ذلك} أي: فيما ذكر من الأمور العظام {للآياتٍ} عظيمة الشأن، كثيرة العدد، {لقوم يتفكرون} في بدائع صنعه تعالى، فإنهم يقفون بذلك على جلائل نعمه تعالى ودقائقها، ويُوفَّقون لشكرها.
الإشارة: {الله الذي سخَّر لكم بحر} التوحيد الخاص، وهو تجلِّي عظمة الذات، لتجري فلكُ الأفكار في تيار بحر الذات ونور الصفات، فتراها تعوم تارة في أسرار الجبروت الأعلى، وتارة في أنوار الملكوت الأدنى، ولتبتغوا من فضل معرفته، وزيادة الترقي في كشف الأسرار، وهذا لمَن اتسع عليه فضاء الشهود، وزاحت عنه حُجب الكائنات، وأما مَن بقي مسجوناً فيها، السماء تُظله، والأرض تُقله، فلا يطمع أن تسرَحَ فكرته في هذه البحار، وحسبه أن يكون حَمّاراً يسافر في البَر، تعبه كثير، وربحه قليل، والغناء به بعيد، وسبب بقائه في تعب البر عدم صحبته للرجال البحرية، الذين هم رُيَّاس البحر، وشيوخ ركْب البر. وبالله التوفيق.
قال القشيري: {الله الذي سخر لكم البحر} تركبونه، فربما تسْلَم السفينةُ، وربما تغرق، كذلك العبد في فلك الاعتصام في بحار التقدير، تمشي بهم رياح العناية، وترفع لهم شراع التوكُّل، تجري في البحر لتَجْر اليقين، فإن هبّت رياحُ السلامة نجت السفينة، وإن هبّت نكباء الفتنة لم يبقَ بيد الملاّح شيء، فعند ذلك المقادير غالبة، وبلغت قلوبُ أهل السفينة الحناجرَ. اهـ. قلت: مَن ركب مع رائس ماهر؛ الغالب عليه السلامة.
قوله تعالى: {وسخر لكم ما في السماوات وما في الأرض جميعاً منه} في بعض الأثر: يقول الله تعالى: «يا ابن آدم؛ خلقت الأشياء من أجلك، وخلقتك من أجلي، فلا تشتغل بما خلقته لك عما خلقتك لأجله» أي: لا تنشغل بخدمة الكون عن خدمة المكوّن، فما أفلح مَن انشغل بدنياه، وآثر هواه على خدمة مولاه، كان حرّاً والأشياء كلها عبيد له، فصار عبداً لعبيده، بحبه للأشياء وتعشُّقه لها، كانت الأشياء تعشقه وتخدمه، ثم صار يخدم الأشياء ويعشقها، أنت مع الأكوان ما لم تشهد المكوّن، فإذا شَهِدت المكوّن كانت الأكوان معك، فاعرف قدرك أيها الإنسان، وارفع همتك عن الأكوان، وعلِّق قلبك بالملك الديّان، يُعطك الحق تعالى من العرش إلى الفرش، تتصرف فيه بهمتك كيف شئت، وما ذلك على الله بعزيز.

1 | 2 | 3 | 4